
هيمنت بيروت لعقود على المشهد الثقافي في لبنان، خصوصاً بعد الحرب الأهلية، فقد ضمّت أكبر المسارح وقاعات الموسيقى ودور النشر والمهرجانات، ما جعلها قِبلةً للحياة الثقافية في لبنان وفي العديد من بلدان المنطقة. لكن هذه المركزيّة كان لها تبعات جليّة، منها تعسير المشاركة الثقافية على المقيمين خارج بيروت، ما أسهم في تثبيت الانقسامات الطبقية والعزلة الجغرافية وتعزيز شعور القطيعة بين سكان الشمال والجنوب والبقاع.
لقد كان المشهد الثقافي في بيروت متأثراً كذلك بالعولمة، فعلى امتداد سنوات، انجذبت ساكنة العاصمة وجبل لبنان، لا سيما الأجيال الشابة، إلى الجماليات الغربية وتجلّياتها في الموسيقى والسينما والأزياء، وغالباً على حساب الجماليات المحلّية. على أن الأشكال الثقافية اللبنانية التقليدية لم تندثر تماماً، إنما هُمّشت وحُكِم عليها بالقِدم والكَساد.
تَغيّر هذا الحال بعد انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 2019، إذ برزت على الساحة الموسيقية والأدائية اللبنانية موجةٌ جديدة من الفنانين المحليين الناطقين بالعربية، مِن الفِرق الغنائية المستقلّة إلى مغنّي الراب. كانت هذه العملية بطيئة ومؤثرة، وقد احتلّت فيها اللغة والإيقاع والسرديات الإقليمية موقع الصدارة من جديد.
ثم، بين عامي 2023 و2024، أبرزت الإبادة الجماعية في غزة والحرب الإسرائيلية على لبنان هذا التغيّر الثقافي أكثر من ذي قبل، إذ تسبّب العنف الذي طال الفلسطينيين واللبنانيين على حد سواء والصمت العالمي عن معاناتهم في شَرْخ وعي اللبنانيين، ما دفع كثيرين إلى التشكيك في القيم والجماليات التي استهلكوها أمداً طويلاً. أمام هذا الواقع، يمّم الناس نحو الإنتاج الثقافي المحلي، لا بصفته فناً فقط، بل بصفته مقاومةً، وبذلك برز الإنتاج الثقافي الإقليمي والمحلي أداةً للمواجهة والتشافي والارتباط بالتراث.
إنعاش الماضي
وسط هذا الفراغ، ظهرت مساحات بديلة للعروض الثقافية، نذكر منها على سبيل المثال “رُمّان”. يستضيف هذا الفضاء الثقافي الذي يقع في طرابلس فنانينَ من خلفيات ثقافية متنوعة، في محاولة لإعادة رسم خريطة لبنان الثقافية - سواء عن قصد أو عن غير قصد.
تبلورت فكرة مساحة “رمّان” في ذهن محمد التنّير وأليكس بلدي منذ عام 2019، لكن تأسيسها الرسمي لم يتأتّ إلا في عام 2021، وكانت بدايتها محدودة النطاق، فاقتصرت الأنشطة على الفعاليات العابِرة والورش الفنية الموجّهة للأطفال والتجمّعات الأهلية. لقد وجد محمد، المولود في بيروت، نفسه مشدوداً إلى طرابلس، المدينة الزاخرة بمعالم الذاكرة الثقافية ولكن المهمَلة طويلاً في السياسات الوطنية والتمثيل الإعلامي. ويُعلّق على هذا بقوله: “يُقال إن بيت المرء حيث يَهنأ قلبه. أُحبّ طرابلس. آنذاك، شعرتُ أن بيروت فقدَت هويتها وأصبحت غريبة تمامًا، ومع ذلك ظلّت مركز النشاط الثقافي”.
يُبيّن محمد أن هذا التمركز لم يكن جغرافياً فحسب، بل أيديولوجياً، لأن البُنى الثقافية ومظاهر التقدير الثقافي انحصرت في العاصمة، ما أدّى إلى تحجيم نطاق الحركة الإبداعية في باقي المدن اللبنانية. مع ذلك، يَجهل كثيرون أهمية طرابلس التاريخية في الإنتاج الثقافي الإقليمي، وفي هذا الشأن يقول محمد: “لقد كانت المدينة مركزاً للثقافة، فَفيها افتُتحت أولى دور السينما في لبنان”.
أثّرت هذه الذكرى التاريخية في اختيار موقع رمّان، فبعد أن اتّخذ محمد وأليكس مساحةً صغيرة لاستضافة الورش الفنية والموسيقية الموجّهة للأطفال في طرابلس، اضطرّا فيما بعد لإيجاد مساحة جديدة، ولم يمض وقت طويل حتى صادفا دار سينما مهجورة في المدينة، وبَدا كأنها مشيئة القدر. ويقول محمد: “كانت لحظةً حاسمةً، باشرنا على أثرها تجديد دار السينما المهجورة دون المساس بطابعها الأصيل. لقد شعرنا أن المدينة وأهلها بحاجة إلى جوهرة ثقافية تُذكّر بماضيها العريق”.
لا تتحدّد رؤية رمّان بالجماليات فحسب، إذ تذهب إلى مناوأة فكرة التّعاطي مع الفن بصفته رفاهية، كما هو الحال في مساحات عديدة، خاصة المساحات القائمة في بيروت، حيث ينحصر الفن في المتفرّغين وأصحاب الموارد والعلاقات.
يقول محمد: “لقد أردنا لِسكّان طرابلس معايشة المشهد الفني دون قلقٍ بشأن المواصلات إلى بيروت ورسوم الدخول الباهظة، كما أردنا للوافدين على طرابلس من المناطق الأخرى الاستمتاع بالعروض دونما انشغالٍ بالتكاليف العالية”.
إن إعادة النظر في كيفية إتاحة الفن قضية ثوريّة في بساطتها، لأنها تُقرّ أن الثقافة يجب ألا تكون حكرًا على فئة دون أخرى. وهذا ما يؤكده محمد بقوله: “ليس شرطاً أن تنحدر من منطقة حضَرية لكي تستمتع بالفنون. لك الحق في ذلك مهما كانت خلفيتك، سواءً كنت عاملاً زراعياً أو طالباً أو غيره. إن ما نسعى إليه هو إزالة الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية من قطاع الفنون، بحيث يصير مفتوحاً أمام الجميع، حتى الفنانين”.
من هذا المنطلق، استضافت رمّان عروضاً فنية متنوعة، من الطّرَب والراب العربي إلى الميتال والموسيقى التجريبية، وذلك بحضور جمهورٍ متنوع، من الناس العاديين والفنانين وسكان طرابلس إلى الوافدين من مدن لبنانية أخرى.
ترميم النسيج الاجتماعي
لم تعد رمّان مكاناً لإقامة الفعاليات فحسب، بل أصبحت مساحةً لتعزيز التلاحم الاجتماعي من خلال استقبال أشخاص قد يتعذّر بينهم التلاقي. وبينما يقع قسم كبير من لبنان تحت طائلة الانقسامات السياسية والطائفية، تُقدم رمّان صيغةً أخرى من التلاقي، تقوم على الخبرة المشتركة والتبادل الخلّاق والفضول.
تَصف سامية، المدوِّنة وعاشقة الثقافة المنحدرة من بيروت، زيارتها الأولى إلى المساحة قائلةً: “كانت رمّان تُنظّم مهرجاناً يمتد ثلاثة أيام ويضمّ فنانين كنت أرغب في حضور عروضهم. أعجبتني تشكيلة المشاركين، ولم أرَ في المسافة عائقاً، بل إنني سررتُ باكتشاف مساحة فنية جديدة خارج العاصمة”.
تجاوز أثر مشاركة سامية في هذا المهرجان نطاق الموسيقى، فقد أنشأت أواصر مع أشخاصٍ من أوساط لم تُخالطها من قبل، وتقول: “أُقابل أشخاصاً جدداً كلما حللت بطرابلس، سواء منظمي الفعاليات أو المشاركين فيها. لقد ألِفت المدينة، وتعلّقي بها يزداد”.
تستحضر سامية إحدى الفعاليات المحفورة في ذاكرتها: مهرجان “الجنوب يتّجه شمالاً”، الذي استضافت فيه رمّان فناني راب أغلبهم من جنوب لبنان. وتقول: “راقَني المهرجان كثيراً ولَمَست أثره البالغ، فقد استطعتُ إقامة صلاتٍ عميقة مع الفنانين والجمهور على حد سواء. إن من الأهمية بمكان جعلُ الفن لامركزياً، ولذلك علينا الاجتهاد لإيصاله إلى مناطق أخرى. وهذا ما أرغبُ فيه بشدة - أن أزور الجنوب والبقاع ومدناً أخرى غير بيروت لحضور الفعاليات الثقافية”.
إن التبادل الثقافي بين المناطق مِن الأهداف الرئيسة لمساحة رمّان، وفي هذا يقول محمد: “يَفِد علينا الفنانون من شتى مناطق لبنان، لكننا نحرص على عرض أعمال الفنانين المحليين لكي يتسنّى لهم إنشاء روابط تتيح لهم توسيع أنشطتهم في البلاد”.
ذاكرة سياسية
لطالما صيغت صورة طرابلس في المخيّلة الوطنية من زاوية الفقر والإهمال وعدم الاستقرار، ولكن المدينة كشفت في السنوات الأخيرة، خاصة بعد احتجاجات 2019، عن وجهها المقتدِر: توقٌ شديد للتغيير ومجتمع مُتحفّز.
يستعيد محمد تلك المرحلة ويقول: “تنبّهنا إلى إمكانيات طرابلس الهائلة، من حيث القاعدة الشعبية ومن حيث الأفراد الراغبين في التغيير بدافع الحب، كما لاحظنا كمْ سنةً ظلّت المدينة تحت قبضة السياسيين والسياسات التي أفقرت أهلها”.
في سياق الإهمال هذا، برزت أهمية المساحات الثقافية، مثل مساحة “رمّان”، فإبّان الأزمات الوطنية والإقليمية - بعد انفجار مرفأ بيروت، وخلال الانهيار الاقتصادي المستمرّ، وفي غمْرة وحشية حرب 2024 - لم تأتِ الاستجابة من الدولة، بل من أفراد المجتمعات المحلية، بما فيهم الفنانون والعاملون في المجال الثقافي. وهذا ما يؤكده محمد بقوله: “كان من الجميل رؤية هبّة الفنانين والعاملين في المجال الثقافي، الذين فقدوا مصادر دخلهم، إلى طليعة أعمال الإغاثة، سواء بعد الانفجار أو خلال حرب 2024 الوحشية”.
علاوة على ذلك، أخذت شريحة واسعة من اللبنانيين، خاصة الشباب، تبحث عن مساحاتٍ تتواءم مع حزنِهم وغيظهم وإحباطِهم من المؤسسات والسرديات السائدة. وبتَعامي الدول الغربية عن الإبادة الجماعية في غزة وقصف لبنان، نفر كثير من اللبنانيين من السياسة العالمية، وحتى من الثقافة العالمية التي تبنّوها فيما مضى. وإذ التفتوا إلى الداخل، نحو اللغة والموسيقى والمساحات التي تحترم هذه التقاليد دون تبخيسها أو تسليعها، تكاثرت المساحات الفنية بالتدريج في مدن عديدة على غرار طرابلس، وقامَت في مسارح جماعية وفي دور سينما مُرمّمة تحوّلت إلى منصاتٍ للتضامن.
تتحدى “رمّان”، ومثيلاتها من المساحات الفنية، كيفية قياس القيمة الثقافية في لبنان، لأنها تُذكّرنا بأن الفن ليس حكراً على العاصمة ولا على فئة بعينها، بل هو في متناول الجميع. ويُشدّد محمد على ذلك بقوله: “لا ينبغي الاستهانة بشأن الجماهير خارج العاصمة. إنها تُنسى أحياناً، كما لو أن على بيروت أن تبقى المركز الثقافي الوحيد في المنطقة”.
تعكس حالة “رمّان” تحولاً أوسع وأعمق يطال مختلف أنحاء لبنان، إذ تشهد البلاد موجةً عارمة لإعادة الصّلة باللغة والإرث الفني وأشكال التعبير الثقافي التي أعانت المجتمعات المحلية خلال عقودٍ من الحرب والحزن والاضطرابات. إن ما كان في حُكم القديم والهامشي أصبح يُستعاد الآن بصفته نابضاً بالحياة.
في بلدٍ موسومٍ بالإهمال البنيوي والنّزوح والمحو العالمي، أصبح الإنتاج الثقافي ضرباً من الذاكرة السياسية. إن الغناء بالعربية والكتابة عن الأرض وجمع الناس بوساطة الموسيقى والحركة، كلها سبلٌ لرفض النسيان، ففي عالمٍ يسعى كثيراً إلى محو الهوية العربية ونزْع طابعها السياسي وصياغتها في قالب آخر، تُصبح إعادة إنتاج الثقافة خط المواجهة الأمامي. إنها تصبح وسيلةً للقول: “إننا باقون هنا، وفي ذاكرتنا جذورنا”.
من خلال هذه المساحات الفنية، يتبلور لبنان مختلف: لبنان يُصغي إلى صوته من جديد.

تم إنتاج هذا الملف في إطار أنشطة شبكة إعلام مستقل عن العالم العربي، التي تضم "السفير العربي“،”باب الميد“(Babelmed)،”مدى مصر"، Maghreb Émergent، "ما شاالله نيوز“،”نواة“،”حبر“،”أوريان 21".